كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والذَّكاء حِدّة القلب؛ قال الشاعر:
يُفَضِّله إذا اجتهدوا عليه ** تَمَامُ السِّنِّ منه والذَّكَاءُ

والذكاء سرعة الفِطنة، والفعل منه ذَكي يْذكَى ذَكًا، والذُّكْوَةُ ما تذكُو به النار، وأذكيت الحرب والنار أوقدتهما.
وذُكاء اسم الشمس؛ وذلك أنها تذكو كالنار، والصُّبْح ابن ذُكاء لأنه من ضوئها.
فمعنى {ذَكَّيْتُم} أدركتم ذكاته على التَّمَام.
ذكّيت الذبيحة أذكيها مشتقة من التّطيب؛ يقال: رائحة ذكِية؛ فالحيوان إذا أسيل دمه فقد طُيِّب، لأنه يتسارع إليه التجفيف؛ وفي حديث محمد بن علي رضي الله عنهما «ذكاة الأرض يُبْسُها» يريد طهارتها من النجاسة؛ فالذكاة في الذبيحة تطهيرٌ لها، وإباحة لأكلها فجعل يبس الأرض بعد النجاسة تطهيرًا لها وإباحة الصلاة فيها بمنزلة الذكاة للذبيحة؛ وهو قول أهل العراق.
وإذا تقرّر هذا فاعلم أنها في الشرع عبارة عن إنهار الدّم وفَرْي الأوْدَاج في المذبوح، والنحر في المنحور والعقر في غير المقدور، مقرونًا بنية القَصْد لله وذِكره عليه، على ما يأتي بيانه.
العاشرة واختلف العلماء فيما يقع به الذكاة؛ فالذي عليه الجمهور من العلماء أن كل ما أفْرَى الأوداج وأنهر الدّم فهو من آلات الذكاة ما خلا السّن والعَظْم؛ على هذا تواترت الآثار، وقال به فقهاء الأمصار.
والسن والظُّفْر المنهى عنهما في التذكية هما غير المنزوعين؛ لأن ذلك يصير خَنْقًا؛ وكذلك قال ابن عباس: ذلك الخنق؛ فأما المنزوعان فإذا فَرَيا الأوداج فجائز الذكاة بهما عندهم.
وقد كره قوم السن والظُّفْر والعظم على كل حال؛ منزوعة أو غير منزوعة؛ منهم إبراهيم والحسن والليث بن سعد وروي عن الشافعي؛ وحجتهم ظاهر حديث رافع بن خَدِيج قال: قلت يا رسول الله إنا لاقو العدوّ غدًا وليست معنا مُدى في رواية فنذكى باللِّيط؟.
وفي موطأ مالك عن نافع عن رجل من الأنصار عن معاذ ابن سعد أو سعد بن معاذ: أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنمًا له بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «لا بأس بها وكلوها» وفي مصنف أبي داود: أنذبح بالمروة وشِقة العصا؟ قال: «أعْجِلْ وأرِنْ ما أنهر الدّم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدّثك أما السن فعظم وأما الظفر فَمُدَى الحبشة» الحديث أخرجه مسلم.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ما ذبح بالَّليطة والشَّطيِر والظُّرَرِ فحِلٌّ ذكيٌّ.
الليطة فلقة القصبة ويمكن بها الذبح والنحر.
والشِطير فلقة العود، وقد يمكن بها الذَّبح لأنَّ لها جانبًا دقيقًا.
والظُّرَرِ فِلقة الحجر يمكن الذكاة بها ولا يمكن النحر، وعكسه الشظاظ ينحر به؛ لأنه كطرف السّنان ولا يمكن به الذبح.
الحادية عشرة قال مالك وجماعة: لاتصح الذكاة إلاّ بقطع الحُلقوم والوَدَجينْ.
وقال الشافعي: يصح بقطع الحلقوم والمَريء ولا يحتاج إلى الوَدَجينْ؛ لأنهما مجرى الطعام والشراب الذي لا يكون معهما حياة، وهو الغرض من الموت.
ومالك وغيره اعتبروا الموت على وجه يطيب معه اللحم، ويفترق فيه الحلال وهو اللحم من الحرام الذي يخرج بقطع الأوداج وهو مذهب أبي حنيفة؛ وعليه يدل حديث رافع بن خديج في قوله: «ما أنهر الدّم».
وحكى البغداديون عن مالك أنه يشترط قطع أربع: الحلقوم والوَدَجينْ والمرَيء؛ وهو قول أبي ثور، والمشهور ما تقدّم وهو قول الليث.
ثم اختلف أصحابنا في قطع أحد الودجين والحلقوم هل هو ذكاة أم لا؟ على قولين.
الثانية عشرة وأجمع العلماء على أن الذبح مهما كان في الحلق تحت الغلصمة فقد تمّت الذكاة؛ واختلف فيما إذا ذبح فوقها وجازها إلى البدن هل ذلك ذكاة أم لا، على قولين: وقد روي عن مالك أنها لا تؤكل؛ وكذلك لو ذبحها من القفا واستوفى القطع وأنهر الدّم وقطع الحُلقوم والودجين لم تؤكل.
وقال الشافعي: تؤكل؛ لأن المقصود قد حصل.
وهذا ينبني على أصل، وهو أن الذكاة وإن كان المقصود منها إنهار الدّم ففيها ضرب من التعبد؛ وقد ذبح صلى الله عليه وسلم في الحلق ونَحَر في اللبّة وقال: «إنما الذكاة في الحلق واللبة» فبيّن محلَّها وعيّن موضعها، وقال مبينا لفائدتها: «ما أنهر الدّم وذُكِر اسم الله عليه فكُلْ» فإذا أهمل ذلك ولم تقع بنيّة ولا بشرط ولا بصفة مخصوصة زال منها حَظّ التعبد.
فلم تؤكل لذلك. والله أعلم.
الثالثة عشرة واختلفوا فيمن رفع يده قبل تمام الذكاة ثم رجع في الفور وأكمل الذكاة؛ فقيل: يجزئه.
وقيل: لا يُجزئه؛ والأول أصح لأنه جرحها ثم ذكّاها بعدُ وحياتها مستجمعة فيها.
الرابعة عشرة ويستحب ألاّ يَذبح إلاّ مَن تُرضى حاله، وكل من أطاقه وجاء به على سنتّه من ذكر أو أنثى بالغ أو غير بالغ جاز ذبحه إذا كان مسلمًا أو كتابيًا، وذبح المسلم أفضل من ذَبْح الكتابي، ولا يذبح نُسكًا إلا مسلم؛ فإن ذَبح النُّسك كتابي فقد اختلف فيه، ولا يجوز في تحصيل المذهب، وقد أجازه أشهب.
الخامسة عشرة وما استوحش من الإنسي لم يجز في ذكاته إلا ما يجوز في ذكاة الإنسّى، وفي قول مالك وأصحابه وربيعة والليث بن سعد؛ وكذلك المتردّي في البئر لا تكون الذكاة فيه إلا فيما بين الحَلْق والَّلبَّه على سنّة الذكاة.
وقد خالف في هاتين المسألتين بعض أهل المدينة وغيرهم؛ وفي الباب حديث رافع بن خَدِيج وقد تقدّم، وتمامه بعد قوله: «فَمُدى الحبشة» قال: وأصبنا نَهْب إبل وغَنَم فنَدَّ منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه الإبل أَوَابِدَ كَأَوَابِد الوحش فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا وفي رواية فكلوه» وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ قال الشافعي: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة؛ واحتج بما رواه أبو داود والترمذي عن أبي العشراء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحَلْق والَّلبّة؟ قال: «لو طعنتَ في فخذها لأجزأ عنك» قال يزيد بن هارون: وهو حديث صحيح أعجب أحمد ابن حنبل ورواه عن أبي داود، وأشار على من دخل عليه من الحفاظ أن يكتبه.
قال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحش.
وقد حمل ابن حبيب هذا الحديث على ما سقط في مَهْواة فلا يُوصَل إلى ذكاته إلا بالطّعِن في غير موضع الذّكاة؛ وهو قول انفرد به عن مالك وأصحابه.
قال أبو عمر: قول الشافعي أظهر في أهل العلم، وأنه يؤكل بما يؤكل به الوحشي: لحديث رافع بن خَدِيج؛ وهو قول ابن عباس وابن مسعود؛ ومن جهة القياس لمّا كان الوحشيّ إذا قُدِر عليه لم يَحِل إلاّ بما يحل به الإنسي؛ لأنه صار مقدورا عليه؛ فكذلك ينبغي في القياس إذا توحّش أو صار في معنى الوحشي من الامتناع أن يَحِلّ بما يحلّ به الوحشي.
قلت: أجاب علماؤنا عن حديث رافع بن خَدِيج بأن قالوا: تسليط النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على حبسه لا على ذكاته، وهو مقتضى الحديث وظاهره لقوله: «فَحبسه» ولم يقل إن السّهم قتله؛ وأيضًا فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال فلا يراعى النّادر منه، وإنما يكون ذلك في الصيّد.
وقد صرّح الحديث بأن السّهم حبسه وبعد أن صار محبوسًا صار مقدورًا عليه؛ فلا يؤكل إلا بالذّبح والنّحر. والله أعلم.
وأما حديث أبي العُشَراء فقد قال فيه الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمّاد بن سَلمَة، ولا نعرف لأبي العُشَرَاء عن أبيه غير هذا الحديث.
واختلفوا في اسم أبي العشراء؛ فقال بعضهم: اسمه أسامة بن قِهطم، ويقال: اسمه يَسار بن برز ويُقال: بلز ويقال اسمه عُطَارد نسب إلى جدّه.
فهذا سند مجهول لا حجّة فيه؛ ولو سُلّمت صحته كما قال يزيد بن هارون لما كان فيه حُجّة؛ إذ مقتضاه جواز الذّكاة في أي عضو كان مطلقًا في المقدور وغيره، ولا قائل به في المقدور فظاهره ليس بمراد قطعًا وتأويل أبي داود وابن حبيب له غير متفق عليه.
فلا يكون فيه حُجّة، والله أعلم.
قال أبو عمر: وحُجة مالك أنهم قد أجمعوا أنه لو لم يِندّ الإنسي أنه لا يُذكّى إلا بما يُذكّى به المقدور عليه، ثم اختلفوا فهو على أصله حتى يتفقوا.
وهذا لا حُجّة فيه؛ لأن إجماعهم إنما انعقد على مقدور عليه، وهذا غير مقدور عليه.
السادسة عشرة ومن تمام هذا الباب قوله عليه السلام: «إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتْلة وإذا ذَبَحتم فأحسِنوا الذبح ولْيُحِدّ أحدكُم شَفْرته وليُرح ذبيحتَه». رواه مسلم عن شدّاد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كَتَبَ» فذكره، قال علماؤنا: إحسان الذّبح في البهائم الرّفق بها؛ فلا يَصْرَعها بعُنْف ولا يَجرّها من موضع إلى آخر، وإحداد الآلة، وإحضار نية الإباحة والقُربة وتوجيهها إلى القبلة، والإجْهَاز، وقَطْع الوَدَجين والحُلقُوم، وإراحتها وتركها إلى أن تبرد، والاْعتراف لله بالمنّة، والشكر له بالنعمة؛ بأنه سخّر لنا ما لو شاء لسلّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا.
وقال ربيعة: من إحسان الذّبح ألاّ يذبح بهيمة وأخرى تنظر إليها؛ وحُكي جوازه عن مالك؛ والأول أحسن.
وأما حُسْن القِتْلة فعامّ في كل شيء من التّذكية والقِصاص والحدود وغيرها.
وقد روَى أبو داود عن ابن عباس وأبي هُريرة قالا: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شَرِيطة الشيطان» زاد ابن عيسى في حديثه: «وهي التي تُذبح فتُقطع ولا تُفْرى الأوداج ثم تترك فتموت».
السابعة عشرة قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قال ابن فارس: النصب حَجَر كان يُنْصَب فيُعبد وتُصبُّ عليه دماء الذّبائح، وهو النَّصْب أيضًا.
والنَّصَائِبِ حِجارة تُنصَب حَوَالى شَفير البئر فتُجعل عَضَائد، وغُبار مُنتَصب مرتفع، وقيل: {النُّصُب} جمع، واحده نِصاب كحمار وحُمُر.
وقيل: هو اسم مفرد والجمع أنصاب، وكانت ثلاثمائة وستين حَجَرًا.
وقرأ طلحة {النُّصْب} بجزم الصَّاد.
ورُوي عن ابن عمر {النَّصبِ} بفتح النون وجزم الصَّاد.
الجحدرِي: بفتح النون والصاد جعله اسما موحّدًا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب؛ كالأجمال والأجبال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالى مكة يذبحون عليها.
قال ابن جُريج: كانت العرب تَذبح بمكة وتَنضح بالدّم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللّحم ويضعونه على الحجارة؛ فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق أن نعظّم هذا البيت بهذه الأفعال.
فكأنه عليه الصلاة والسلام لم يكره ذلك؛ فأنزل الله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} [الحج: 37] ونزلت {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب} المعنى: والنيّة فيها تعظيم النُّصُب لا أن الذّبح عليها غير جائز، وقال الأعشى:
وَذَا النُّصُبَ المنصوب لا تَنْسُكَنَّه ** لِعافيةٍ والَّلَهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا

وقيل: {على} بمعنى اللام؛ أي لأجلها؛ قال قُطْرُب قال ابن زيد: ما ذُبح على النُّصُب وما أهِلَّ به لغير الله شيء واحد.
قال ابن عطية: ما ذُبِح على النُّصُب جزء مما أهِلّ به لغير الله، ولكن خصّ بالذّكْر بعد جنسه لشُهْرة الأمر وشَرَف الموضع وتعظيم النفوس له.